Aller au contenu principal

المثقفون الأوروبيون وصدى حرب الإبادة

غزة

منذ بدء حرب الإبادة على غزة، بدا أن المشهد الثقافي في الغرب يعيش ارتباكاً واضحاً. ففي الوقت الذي عبّر فيه عدد من الفنانين والرياضيين عن تضامنهم المباشر مع الضحايا الفلسطينيين، ظل جزء من النخب الفكرية والأدبية متردّداً أو صامتاً، وكأنّ التعبير عن موقف إنساني بسيط أصبح معضلة أخلاقية وسياسية.

التحول النسبي في مواقف بعض المثقفين مؤخراً طرح سؤالين أساسيين: لماذا كان التعاطف ضعيفاً نسبياً في البداية؟ وما الذي يدفع مثقفاً غربياً إلى المجازفة بسمعته، وربما بمستقبله المهني، حين يوقّع بياناً أو يكتب نصاً ينتقد فيه السياسة الإسرائيلية أو يعرب عن تضامنه مع غزة؟

تاريخياً، ظلّت النخب الثقافية الغربية أسيرة ثقل المحرقة وما ترتّب عليها من شعور بالذنب الجماعي تجاه اليهود في أوروبا. هذا العامل جعل أي نقد لإسرائيل محفوفاً بخطر اتهام صاحبه بمعاداة السامية.

مواقف التضامن التي برزت لم تأتِ من فراغ. هناك ثلاثة عوامل دفعت بهذا التحوّل: الصور الميدانية الكاسحة: مشاهد الدمار والضحايا المدنيين، لا سيما الأطفال الغزّيين، فرضت نفسها على الوعي العام، ولم يعد ممكناً تبريرها بخطاب الحرب على "الإرهاب". وأيضاً الإرث الأخلاقي للمثقفين حيث ثمة شعور بين كثير من الكتّاب والفنانين بأنّ الصمت يجعلهم شركاء في الجريمة. ولهذا جاء في أحد البيانات الفرنسية: "إن صمتنا يعني أننا تخلينا عن جوهر رسالتنا الثقافية: الدفاع عن الإنسان". بالإضافة إلى أن تراكم التجارب السابقة: منذ الانتفاضة الفلسطينية الثانية، مروراً بحروب غزة المتكررة، والذي رسّخ قناعة بأن الدفاع المطلق عن إسرائيل يضعف مصداقية المثقف الغربي أمام الرأي العام العالمي.

تصاعد الإجرام الإسرائيلي أدى في المحصلة إلى تبلور موقف جماعي عبر عنه البيان الذي نشرته صحيفة ليبراسيون في مايو/أيار 2025، ووقّع عليه مئات المثقفين الفرنسيين، بينهم أسماء بارزة في الحقول الأدبية والفكرية والفنية. ودعا إلى وقف فوري لإطلاق النار، وذكّر بضرورة احترام القانون الدولي، واعتبر أن صمت المجتمع الثقافي لا يليق بقيم العدالة والإنسانية التي يُفترض أن يحملها، واستخدم كلمة "إبادة" لوصف ما يجري في غزة.

كان لهذا التوصيف أثر بالغ، لأنه تجاوز لغة الحذر والتوازن التي اتسمت بها بعض المواقف السابقة، وأدخل النقاش في فرنسا إلى مستوى جديد من الجدل السياسي والأخلاقي. من بين الموقِّعين نجد الحائزَيْن على نوبل للآداب جان ماري غوستاف لوكلزيو وآني إرنو، والكاتبين محمد موغار سار وليلى سليماني المتوّجين بالغونكور. هذه المواقف عكست تحوّلاً تدريجياً في المشهد الثقافي الفرنسي، من أصوات فردية معزولة إلى خطاب جماعي أكثر وضوحاً وحزماً، يربط بين الدفاع عن الفلسطينيين ومبادئ العدالة الكونية.

من بين الأصوات التي أثارت جدلاً واسعاً كان الكاتب المسرحي الكندي-اللبناني وجدي معوض، المقيم في فرنسا، ففي نص نشره في صحيفتي ليبراسيون ولو دوفوار رفض الانجرار إلى خطاب الكراهية، وكتب: "لن تمنحونا كراهيتكم. نحن نرفض أن نحيا في عالم مقسوم بين ضحية وجلاد بسطحية. إنّ حماية حياة المدنيين جميعاً هي المعيار الوحيد". رغم أنّ نصه حاول أن يقف على مسافة من الجميع، إلا أنه كشف المعضلة التي يعيشها المثقف في الغرب: كيف يُمكنه أن يعبر عن التعاطف الإنساني من دون أن يتعرض لاتهامات قد تهدد مسيرته.

في إيطاليا، ظهرت أصوات نددت بالسياق التضليلي للرأي العام، حيث اعتبر الفيلسوف الإيطالي إنزو ترافيرسو أن حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل "باسم ذكرى المحرقة" لا تفعل "سوى الإساءة إلى تلك الذاكرة وتشويه سمعتها"، بحيث ينتهي الأمر بالكثيرين "إلى الاعتقاد بأن المحرقة هي أسطورة تم اختراعها للدفاع عن مصالح إسرائيل والغرب".

كما برز مثقفون ذهبوا نحو وضوح أكثر في الدفاع عن الفلسطينيين، رغم التحديات السياسية والإعلامية، مثل الكتّاب فرانتشيسكو بورغونوفو ودافيدي بيكاردو ورومانا روبيو. ولم يقتصر التضامن على المثقفين التقليديين، بل شمل أكاديميين وكتّابا من اليهود الإيطاليين الذين اتخذوا موقفاً صريحاً. ففي فبراير/ شباط 2025، وقع أكثر من 200 مثقف يهودي إيطالي، بينهم كتّاب وأكاديميون وصحافيون، بياناً طالب بوقف العنف الإسرائيلي في غزة والضفة الغربية، ورفض أية سياسات تهدف إلى تهجير الفلسطينيين أو فرض العقوبات الجماعية.

أما في إسبانيا، فكان المشهد أكثر وضوحاً. عشرات الكتّاب والفنانين المعروفين، من بينهم أسماء حصلت على جوائز أدبية مرموقة، وقّعوا على بيانات تدعو حكومتهم إلى اتخاذ موقف صارم من الهجوم الإسرائيلي. ففي الأشهر الأولى بعد السابع من أكتوبر، وقّع أكثر من ألف مثقّف إسباني بياناً تضامنياً مع فلسطين، مطالبين بإنهاء القصف بشكل فوري على غزة، وإنهاء الجرائم التي ترتكبها "إسرائيل" بحق الشعب الفلسطيني. وجاء في البيان، الذي حمل عنوان "يجب أن نوقف العدوان": "لا يحق لإسرائيل، بحجة حماية نفسها، احتلال فلسطين وإبادة سكانها وارتكاب المجازر. الشعب الفلسطيني قضيته عادلة وندافع عن هذا الحق".

ومن بين الموقعين جاءت أسماء بارزة مثل: الممثلين ماريسا باريديس، خوان دييغو بوتو، سيرجي لوبيز، آنا فرنانديز، إيما سواريز، إتزيار كاسترو، بياتريس ريكو، نوريا جالاردو، كيتي مانفير، سيلفيا مارسو، والكتّاب مونتكسو أرمينداريز، ليديا كاتشو، والمغنين كريستينا ديل فالي، كارمن باريس، أمبارو سانشيز.

الوضوح لدى مثقفي إسبانيا ارتبط إلى حد كبير بالمناخ السياسي، إذ إنّ الحكومة الإسبانية نفسها تبنّت خطاباً أكثر انتقاداً لإسرائيل مقارنة بعدد بحكومات أوروبية أخرى.

ثمة شعور بأنّ الصمت يجعل نخب أوروبا شريكة في الجريمة

لم يبتعد الجدل في بريطانيا في البداية عما شهدت الأوساط الأوروبية عموماً، لكن برزت أصوات تعاطت مع القضية من زاوية البحث عن الأسباب الجذرية للأزمة، حيث وجه أكثر من 2,000 فنان وشخصية ثقافية بريطانية رسالة حادة إلى الحكومات الغربية اتهموها فيها بالتواطؤ ومساعدة وتحريض إسرائيل على ارتكاب "جرائم حرب" في غزة. 

وبرز من بين الموقّعين الكتّاب مارينا وارنر، جاكلين روز، جيليان سلوفو، وكورتيا نيولاند، والممثلون تيلدا سوينتون، ستيف كوغان، تشارلز دانس، ماكسيم بيك، ميريام مارغوليس، والمخرجون مايكل وينتربوتوم، مايك لي، وآصف كاباديا.

لكن مثل هذه المواقف واجهت أيضاً ضغوطاً قوية. فتعرضت بعض الأسماء الموقعة لحملات تشهير في الصحافة البريطانية، واتُّهموا بتبرير الإرهاب أو بالانحياز الأيديولوجي. وهذا يوضح إلى أي حد يشكّل إظهار التضامن مخاطرة حقيقية بمستقبل المثقف.

المصدر: العربي الجديد / علي سفر