Aller au contenu principal

عظة عيد سيّدة فلسطين ٢٠٢٥

القدس

بطريرك القدس للاتين - الإخوةُ الأساقفةُ الكرام، 

الأخواتُ والإخوةُ الأعزاء،  

ليكنْ سلامُ الربِّ معكم!  

كما في كل عام، أودّ أن أتوقّف عند بعض الإيحاءات التي تقدمها لنا كلمة الله في هذا اليوم الجميل، يوم الصلاة والشركة حول العذراء مريم الكلية القداسة.

تبدأ قراءة سفر أعمال الرسل بعبارة لطالما أثرت فيّ، وأرى أنّها اليوم، أكثر من أي وقت مضى، قادرة على أن تلهم حياة جماعاتنا الكنسيّة: «فَرجَعوا إِلى أُورَشَليمَ مِنَ الجَبَلِ الَّذي يُقالُ لَه جَبَلُ الزَّيتون» (أعمال ١: ١٢).

رجع التلاميذ مع العذراء مريم إلى أورشليم، إلى العلّية، حيث سينالون بعد أيام الروح القدس في يوم العنصرة. رجعوا إلى المدينة، إلى المكان حيث تزدهر الحياة والعلاقات والمجتمع.

بعد صلب يسوع وموته، كان التلاميذ قد تفرّقوا، ومع موته مات شيء في قلوبهم. فقدوا الرجاء الذي كان يحييهم. استأنفوا أعمالهم اليومية، لكن في داخلهم كان يسكن الخذلان والإحباط، وقد عبّر تلميذا عمّاوس عن ذلك بوضوح:
«وكُنَّا نَحنُ نَرجو أَنَّه هو الَّذي سيَفتَدي إِسرائيل» (لوقا ٢٤: ٢١).

لكن بعد لقائهم بالرب القائم من بين الأموات، تغيّر كل شيء. استغرق الأمر وقتًا لفهم معنى ما جرى، لكنهم عادوا إلى الحياة بكلّيتها، فالرجاء الذي بدا مفقودًا أصبح تدريجيًا إيمانًا حيًّا راسخًا.

وأشعر أنّ هذه العبارة تخاطبنا اليوم أيضًا. لقد عطلت الحرب حياتنا لفترة طويلة. من جهة، عشنا مأساة الحرب التي نأمل أن تقترب من نهايتها، رغم أنّ الصعوبات السياسية وتبعاتها لا تزال تثقل كاهل عائلاتنا جميعًا، وقد ولّد ذلك فينا شعورًا بعدم الثقة وخيبة الأمل، شبيهًا بما شعر به التلاميذ.

ومن جهة أخرى، يبدو أنّنا نستطيع أن نبدأ بالتفكير بأنّ الحياة يمكن أن تُستأنف، وأنّنا نستطيع أن نفكّر بالمستقبل بنظرة أكثر إيجابية. هنا تبرز العبارة التي تلمسني بعمق: «فرجعوا».
ينبغي ألا نسمح بعد الآن لتنين سفر الرؤيا أن يقيدنا، لا في أعماق روحنا ولا في واقعنا الملموس، كما حدث للتلاميذ.

لا أدري إن كانت الحرب قد انتهت فعلاً، لكنّنا نعلم أنّ الصراع سيستمرّ بشكل أو بآخر. لذلك، علينا أن نتغلّب على التجربة التي تدفعنا إلى التفكير بأنّ هذه الحرب مجرّد مرحلة عابرة في حياة كنيستنا، مهما طال أمدها. فالصراع الذي نعيشه، بما يحمله من تعقيدات سياسية ودينية، وما يخلّفه من مخاوف وأحكام مسبقة متبادلة، أصبح جزءًا من هويّتنا الكنسيّة. ليست هذه أمورًا ينبغي فقط أن نتخطّاها كي نحيا، بل هي المكان الذي تُدعَى فيه الكنيسة لتعبّر عن حياتها، وفي هذا السياق تُرسَل لتُشع نورها وتنشر رؤيتها ورجاءها الذي لا يزول.

وهذه ليست دعوة فردية فحسب، بل هي دعوة موجّهة إلى الكنيسة بأسرها، جماعة المؤمنين. نحن مدعوّون إذًا لأن نختار كيف نعيش في هذا الصراع: هل نترك له أن يشكّل فكرَنا ونظرتَنا، أم نختار نحن، كمسيحيّين، الطريقة التي نعيش بها هذا الواقع؟ فلنسأل ذواتنا: ألدينا كلمة حقيقية مختلفة تعبّر عن رؤيتنا للحياة في هذه الأرض المقدّسة؟

وأشعر أنّه، رغم ما يحمله هذا الزمن من اضطرابات وصعوبات، فإنّنا مدعوّون لأن نعيشه على أكمل وجه، بشغف وحيوية، مؤكدين من جديد انتماءنا للمسيح، ومستمدّين منه، كما فعل التلاميذ، القوة والدافع لنعود إلى أورشليم، أي لنعود إلى الحياة، ولكن لنمنح هذه الحياة لكل من هو متحيّر في زمننا هذا.

وينهي الإنجيليّ لوقا، وهو كاتب سفر أعمال الرسل أيضًا، إنجيله بالعبارة ذاتها: «ورجعوا إلى أورشليم»، لكنه يضيف: «وهُم في فَرَحٍ عَظيم» (لوقا ٢٤: ٥٢).

إنّ دعوتنا اليوم هي أن نعود إلى حياتنا ونحن نحمل في قلوبنا ذلك «الفرح العظيم» الذي اختبره التلاميذ بعد صعود الربّ إلى السماء.
ففي قلب واقعهم اليومي نالوا الروحَ القدس، فتحوّل الخوف إلى قوّة، واليأس إلى رجاء، والحزن إلى انطلاقٍ جديد.
هكذا نحن أيضًا مدعوّون لأن نسمح لروح الحياة أن يجدّد فينا ما خمد، وأن يتدفّق في تفاصيل وجودنا الشخصي والجماعي.
فلنوجّه نظرنا إلى داخلنا، نُنقّي قلوبنا من كلّ ما يقيّدها، ونتحرّر من الخوف الذي يشلّنا ويمنعنا من السير نحو الأفق الذي يفتحه الربّ أمامنا.

فإذا كان ذلك ممكنًا للتلاميذ، فهو ممكنٌ لنا نحن أيضًا.

لكن علينا أن نؤمن أولًا، أن نؤمن بأنّه لا يزال من الممكن أن نعيش بهذه الطريقة. أعلم جيدًا أنّ العديد من مشاكلنا ستبقى، وأننا لن نرى السلام الحقيقي قريبًا. ولم يره التلاميذ أيضًا، لكنهم لم يبقوا على الجبل يحدّقون في السماء (أعمال 1:11)، ولم ينغلقوا في العلّية خوفًا، بل عادوا إلى أورشليم، إلى حياة المدينة، «وكانوا يُواظِبونَ جميعًا على الصلاة بقلب واحد» (أعمال 1:14). ومن أورشليم انطلق التلاميذ من جديد بروح متجددة، ونحن أيضًا، «مواظبون على الصلاة بقلب واحد»، نريد أن نطلب من الله، بشفاعة العذراء القديسة، أن يمنحنا القوة والشجاعة لنطوي الصفحة، ونبدأ من جديد في بناء حياتنا، مستمدّين القوة والعزيمة من لقائنا بالرب القائم من بين الأموات.

العذراء مريم تذكّرنا اليوم أنّ الليل قد يحيط بنا، لكن المسيح القائم هو نورنا. وإذا كان النور معنا، فلا خوف من الظلمة! لا ينبغي أن نخاف الصعوبات التي لا بد أن تواجهنا، بل أن نطلب الشجاعة لنواصل مسيرتنا.

تدعونا العذراء اليوم إلى أن نَخْلَعْ أَعمالَ الظَّلام ونَلْبَس سِلاحَ النُّور (راجع رومة ١٣: ١٢)، وأن نتوقّف عن مجرد البكاء على الموت الذي يحيط بنا، ونبدأ من جديد في بناء مساحات ترحب بالحياة والرجاء، وأن نرفع أنظارنا لنرى الخير الكثير الذي لا يزال يُصنع من حولنا ويغذّي رجاءنا، لأنّه حتى في هذا السياق الصعب الذي نعيشه، يبقى الخير ممكنًا.

كم من مبادرات التضامن والتعاون يشهدها عالمنا اليوم، يبادر إليها رجالٌ ونساءٌ من شتّى الخلفيّات، يمدّون أيديهم ليعينوا إخوتهم في أحلك الظروف، في مشهدٍ يفيض إنسانيّة ورجاءً.
وكم من كنائسَ في العالم، بعضها شديد الفقر، أرادت أن تشارك في دعم كنيستنا، لا بالصلاة وحدها، بل بعطاءٍ ملموس، وبقلبٍ نابض بالمحبّة، ليس في غزّة وحدها بل في بل في كلّ أرضنا.

كم هي كثيرة تلك المواقف التي يشعّ فيها بصيصٌ من نور، وسط ليلٍ يخيّم بظلمته.
وكأنّ قوّة التنّين، ذاك الرمز العظيم للشرّ في سفر الرؤيا، قد أيقظت في المقابل طاقةً خفيّة من الخير والتضامن والشركة والمحبّة.
كم من أشخاصٍ من كلّ الثقافات والديانات أرادوا أن يكونوا معنا في هذا الزمن الصعب. أفكّر بخاصّة في أولئك الأطفال الذين اقتسموا القليل الذي يملكونه مع أقرانهم في الأرض المقدّسة.
فالتنّين، أي إبليس، يبقى عاجزًا أمام الحبّ، وهناك بالضبط نريد أن نكون نحن، في موضع الحبّ.

فلننهض إذن بشجاعة! ولننظر إلى الأمام بثقةٍ لا تتزعزع، لأنّ الله لم يتركنا وحدنا، ولن يتركنا أبدًا.
لنطلب من سيّدة فلسطين أن تفتح قلوبنا على الرجاء، وأن تنير عيوننا لنرى حضور الله بيننا: في فقرائنا، وفي عائلاتنا، وفي جماعاتنا الرهبانيّة والرعويّة، وفي مجتمعنا المدني. لنُوكِل إليها مرّة أخرى أبرشيّتنا البطريركيّة في القدس، كي تمنحنا القوّة لنكون في أرضنا المقدّسة شهودًا أمناء للفرح والرجاء.

. آمين.

المصدر: البطريركية اللاتينية.